كثير ما يتسائل المرء عن أشياء كثيرة في هذا العالم، و لعل أكثر الأسئلة تتمحور حول ذات الله و حول القدر و الحياة و الموت و ما بعد الموت. و قد يمضي الإنسان حياته يفكر في بعض هذه الأمور ليصل إلى أجوبة يقينية محددة .. فهل سنصل يوما إلى إجابات عن تلك الأسئلة؟ ..
بكل بساطة، الجواب: كلا. فإذا كان الإنسان ذو عقل محدود و لم يُتح له من العلم إلا القليل، فكيف سيصل بفكره و فلسفته إلى المعرفة المُطلقة؟ هل سيخترع عقلا جديدا لا تحكمه قوانين الكون (المحدودة) التي وضعها الله تعالى؟
إذن فالعقل لا قيمة لهبالعكس، فاقرأ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل” أخرجه الترمذي.
هل هناك ضرورة مثلا لأن يتجلى لك الله لكي تعرف أنه موجود؟ فقد هيّأ الله سبحانه و تعالى للعقل أمورا كثيرة تجعله يستنبط منها دون عناء أن هناك خالق ما للكون.
فالعقل مهما كان بسيطا فإنه يعرف أن لا شيىء يأتي من العدم، و أن لكل شيىء بداية و نهاية، و لا جدال في هذا. إذن ما بداية الكون، و من أين أتى؟
بالطبع قد تقول أن الماء جاء عندما اجتمع الأوكسجين و الهيدروجين، فلابد أن الكون أتى بطريقة مماثلة عند حدوث شيىء ما، كـ Big Bang مثلا. لكن لا تنسى أن قبل وجود عالمنا هذا لم يكن هناك شيىء! أول البداية كانت من العدم.
العقل برؤية أعمقيتفق العلماء أن ما نراه في العالم الخارجي من أشياء ناتج عن إنعكاس الضوء إلى شبكة العين. و قد نتج عن هذا الإكتشاف تساؤل مهم: ما الذي يؤكد مادّية العالم الخارجي من حولنا؟ حسنا هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه بهذه البساطة إلا إذا فهمنا آلية عمل العقل.
بداية علينا أن نحدد وسائل الإتصال التي تربطنا بالعالم الخارجي لكي نعي حقيقة هذا العالم. وسائل الإتصال هي: السمع و البصر و اللمس و الشم و النطق. إذن هي الحواس الخمس. العقل هو الذي يدير تلك الحواس، عن طريق شكبة معقدة جدا من الأعصاب، تربط بين الحواس و بين العقل. لذلك تستطيع أن تقول أن العقل - كفكرة - يمكن تشبيهه باللوحة الأم (motherboard) في الحاسوب، حيث يقوم بكل العمليات الإدارية، و من دونه لا يكون للحاسوب معنى.
تم تحديد وسائل الإتصال بالعالم الخارجي و الآن إسأل نفسك: ما الذي يؤكد لي أن ما تنقله إليّ الحواس حقيقيا؟ فأنت مثلا ترى العصفور، و لكن لو جئت لتدقق في حقيقة ما تراه ستكتشف أن العصفور ليس إلا صورة تراها أنت في دماغك، نتجت عن إنعكاس الضوء المنبعث من العصفور. فالعصفور موجود لكن ليس بالضرورة أن يكون موجودا فعليا، و ليس هناك ما يؤكد ذلك.
هذا بالنسبة للرؤية. و قد تصادف أن تلمس عصفورا بيدك و تسمع صوته و تشم رائحة ريشه … نعم لكن يؤسفني أن أخبرك أن هذا لا يؤكد وجود العصفور. فما تشعر به عندما تلمس العصفور ليس إلا شعورا يُوجده الدماغ نتيجة لإشارات عصبية آتية من الموضع الذي تملس من خلاله العصفور.
إذن كل شيء ناتج عن الإشارات العصبية، سواء ما تسمع أو ما ترى أو ما تلمس … و كل ما تشعر به ناتج عن تحليل الدماغ لتلك الإشارات، و هذا التحليل يحدث داخل الدماغ فقط!
إستنادا على ما يؤكده العلم لنا فيما يخص العقل أو الدماغ، ليس هناك ما يؤكد أن العالم الخارجي حقيقيا أو موجود فعليا. و أن ما نراه و نشعر به هو مجرد أفكار. لذلك يمكن أن تشبه الواقع بالمنام، لأن كلاهما عبارة عن أفكار تسري في دماغك. و لفهم هذا أكثر، يمكن إجراء تجربة معينة.
هب أنه تم فصل الدماغ عن جسمك، و هُيأت له ظروف العيش، فإنك قادر مثلا أن تبعث إليه عن طريق الحاسوب بإشارات عصبية شبيهة بالتي تبعثها إليه أعصاب العين و اليد و غيرهما. و سيبدأ الدماغ بتحليل تلك الإشارات تماما و كأنه لازال موجودا داخل رأسك يسمع و يرى .. و يمكن تشبيه العملية بالتلفاز الذي يُرسل إليه الطبق اللاقط (dish) إشارات تجعله يبث لك الصور. فمن من أين يتلقّى الطبق الإشارات؟ و ما مصدر الإشارات التي يتلقاها الدماغ في حياتنا اليومية من ”العالم الخارجي” في حال كان كل شيىء حوالنا مجرد أفكار أو خيال؟
هل هناك عقل \ دماغ؟بما أن معرفتنا بالدماغ ليست إلا نتيجة لرؤيتنا له بالعين المجردة، فإنه أيضا يقع تحت دائرة الأشياء التي لا يمكن تأكيد وجودها.
خلاصة القول
يمكن أن يُعد العقل \ الدماغ مظهرا من مظاهر الروح، و أنه يستمد أفكاره و أحاسيسه من الله مباشرة (مصدر الإشارات)، و أن ليس هناك شيىء إسمه مادة - كما يدّعي الماركسيين و دعاة الفلسفة المادية (materialism) .. و يستند البعض في ما طرحته آنفا إلى قوله تعالى: و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد (ق 16) و إلى آيات عديدة أخرى تلوّح للمعنى نفسه.
و تستطيع أن تنظر إلى الجنة و النار من هذا المدلول ..
هذا و الله أعلم. فلا يمكن أن يجزم المرء أشياء معقدة بهذا الحجم، كانت محط نقاش و جدال على